في كل صيف كان ملاذنا الوحيد للهروب من المدينة، أو بالأحرى ملاذ أهلنا للتخلص منا، هو الذهاب لزيارة بيت جدي في القرية. وبما أن أمي وأبي ينحدران من قريتين ومدينتين مختلفتين فكانت زياراتنا الصيفية للقرية هي بالتناوب بين أهل أمي وأهل والدي، والآن بعد أن كبرت عرفت لما كانوا يتناوبون على وجع الرأس! في صيف إحدى السنوات ذهبنا لزيارة بيت جدي في قرية والدي، وكالعادة خرج جدي وجدتي إلى أول الشارع للترحيب بنا وغمرنا بالقبلات والاحضان! كيف لا ونحن أبناء البكر وهم أيضاً يقضون معظم الشتاء والربيع تقريباً وحيدين فتأتي زيارتنا كالفرج. يعطينا جدي ثيابا تليق بجو القرية وهو يقول: هذه هي الثياب اللائقة وغداً عليكم أن تستيقظوا في الصباح الباكر لمساعدتي بحلب البقرات. تجمد الدم في عروقنا أولا لأننا سنستيقظ باكراً في فترة إجازتنا الصيفية وثانياً لأننا سنكون على بُعد أقل من متر من البقر الذي سبق أن رأيناه في كتبنا المدرسية فقط! لم يكن لدينا الشجاعة لرفض طلب جدي، ولأعطيكم فكرة سريعة عن جدي فلكم أن تعلموا أنه مزارع ويعيش من محصول ما يزرعه ومن بيع الحليب ومشتقاته، وبالتالي فهو قوي البنية عريض المنكبين وصوته فقط يكفي ليجعلنا نقف مثل الألف! استيقظنا في أول صباح عند الساعة الخامسة على صوت جدي الذي كان يقول كلمات مثل: أولاد المدينة المدلعين! هيا انهضوا يا كسالى، طلع الضو وانتم لازلتم تشخرون! تحركنا من فراشنا بتملل آملين أن ينسى أمرنا أو يكون حلم وسينتهي لكن آخر صرخة من جدي كانت كفيلة لتُطيّر النوم من عيوننا وتجعلنا جاهزين في دقائق قليلة وقد وقفنا كصفٍ عسكري أمام جدي الذي تهيئ لنا أنه زاد طولاً فجاءة! شرح جدي لنا كيفية حَلب البقر وطبعاً كانت معدتي تعتصر أولاً من الخوف من البقرة التي لم تبدو لي سعيدة بوجودنا وثانياً بدى موضوع الحَلب مقرفاً لي! أردت أن أخفي شعوري حتى لا أسمع محاضرة جديدة من جدي ونظرت إلى أخي الذي وقف مشدوداً ورسم وجهاً جدياً وهو يحرك رأسه متابعاً تعليمات جدي وأختي فعلت الشيء ذاته! أعطانا جدي “الفازلين” الذي حسب شرحه يستخدم للترطيب وحتى لا نؤذِ البقرة أثناء العملية فهذا يعطينا خفة في الحركة. حاولت أن أقف في آخر الصف أملاً مني أن ينتهي حليب البقرة قبل أن يصل دوري وأنا أراقب أخي الذي بدأ أولاً لكونه صبي ولكونه الكبير وجدي يساعده وقد رأيت خيط الحليب الرفيع وقد أصابتني دهشة عارمة وفرح لرؤية هذه العملية على الواقع وقد أنساني هذا المنظر خوفي قليلاً. كان الحليب يقع في القِدر وأحياناً خارجه فيتنحنح جدي علامة على إستيائه ويطلق علينا ألقاباً من جديد. بعد عناء استطاع أخي التحكم بالعملية وبدى عليه الارتياح وفي النهاية جاء دوري، وببساطة انتهى بسرعة لأنني ولست أعلم حتى هذا الوقت مالذي فعلته لكنني تسببت بإزعاج البقرة التي بدورها تحركت بعنف معترضة على قلة خبرتي ورفست القِدر بقدمها وانسكب الحليب على الأرض ولكم أن تتخيلوا وجه جدي الذي تُخيل لي أن لونه صار أزرق وإنهالَ عليَّ بالمسبات ولم ينجني من يده العملاقة -في نظري- إلا جدتي التي جاءت تركض على وقع الصراخ وهي تعلم جيداً أنها الوحيدة التي ستشفع لنا! أتت مسرعة وخطفتنا من الموقف وكان وجهها الأبيض المدوّر ساخناً وتلون بالأحمر حيث أنها كانت تخبز لنا ما كانت تسميه: عصاة الراعي، وهي في رأينا كانت أطيب عصاة مصنوعة من الخبز بنكهة محبة جدتي. ضحكت وقالت: تستاهلون هذه العصاة الشهية على تعبكم! كانت جدتي غريبة على القرية لكنها تعلمت جميع الأعمال اليومية لحياة المزارعين وأصبحت جزء من تراث القرية فهي تجدّل شعرها الأسود الطويل وتقسمه إلى نصفين، وتلبس الثياب الحورانية وتضع الغطاء الأسود الذي يلبسه البدو على رأسها ليضيف لوجهها سحراً آخر. عند المساء عقدنا إخوتي وأنا إجتماع طارئ وقررنا أن هذه الحالة لن تستمر فنحن في إجازة صيفية وهذا يعني أنه بإمكاننا النوم كما نريد ونلعب في النهار بدل مساعدة جدي وتعلم أشياء جديدة! وطبعاً اتفقنا ان نكون صوتاً واحداً حتى نستطيع ان نجابه جدي. جاء الصباح التالي، وكل ما اتفقنا عليه ذَهبَ سدى لان هيبة جدي وشخصيته القوية وصوته الرجولي جعلنا نقفز من فراشنا ونعيد الكرة ولكن كان الموضوع يستاهل التعب لأننا في النهاية تعلمنا حلب البقرة وشاهدنا جدتي وهي تخبز لنا عصاة الراعي وتصنع الزبدة والسمن البلدي الشهي من الحليب وليس هذا فقط بل سمح لنا جدي بقيادة البقر الصغير إلى الحقل ليرعى. بالتأكيد أنا لم أقد أي بقرة والسبب سأسرده في قصة أخرى لكن تلك كانت من أجمل الإجازات التي قضيناها في بيت جدي وجدتي، أما جدي وفي نهاية الزيارة وبعد أن أنهكناه كتب عنا قصيدة، نسيت أن أذكر أنه كان شاعراً، وقد هجانا على سبيل المُزاح وسماها “عيد الجلاء” كتبها قبل ذهابنا بساعات ولوّح لنا مودعاً هو وجدتي وقد رأيناه من بعيد يمسح دموعه وهو يتابع رحيلنا الحلو المُر. إهداء إلى روح جدتي وجدي… بتصرف 🙂
عيد الجلاء
Updated: Nov 8, 2020
Comments